أبو شوقي يستعيد مالمح احلياة في اجلليل قبل النكبة ورحلة اللجوء من حطني إلى طرابلس تنتهي بعرابة البطوف
الناصرة ـ »القدس العربي« ـ من وديع عواودة:
ّ الشيخ محمود رباح )أبو شوقي( املهجر من حطني، املقيم في عرابة البطوف،
كان فــي النكبة طفال بالثانية عشــرة من عمره عندما رافــق عائلته »الهجيج«
إلى لبنان سيرا على األقدام في الســادس والسابع عشر من متوز/ يوليو، فور
انسحاب جيش اإلنقاذ من قريته حطني قضاء طبرية.
هذا األســبوع رافقته »القدس العربي« إلى حطني حيث كان والده ميلك 500
دومن تزرع بالكروم واملقاثي وما زال يرفض املســاومة عليها بعد مصادرتها من
قبل إسرائيل التي تعتبره »حاضرا غائبا« وصادرت كل حطني وما فيها وهدمت
منازلها احلجرية عام 1965 عدا مسجد تاريخي يعاني الهجران.
فور وصوله غســل وجهه مباء نبــع العيون، ثم جلس على كرســي بجوار
اجلدول املتدفــق وهو يقول لن تطفىء نــار احلنني في داخلــي أليام الطفولة
والصبا في حطني كل مياه بحيرة طبرية.
في شــهادته يقول إن وجهاء حطني اجتمعوا في منطقــة »املراح« للتباحث
فيما يفعلونه فأرســلوا وفدا جلارتهم لوبية لالطالع على مــا يدور، ولكنهم ما
أن وصلوا قرون حطني حتى اكتشــفوا أنها »هاجة« وعندهــا بدأ أهالي حطني
يغادرون: »كنا عدة عائالت من أقاربنا قد غادرنا شــماال وحملنا بعض الفراش
واألغراض على احلمير واخليل وانطلقنا«.
ويتابــع »مررنا من بير »مزقة« شــمال بلدتنا وبتنا فــي منطقة احلامي ليلة
واحدة وفي وادي سالمة ورأس النبع مننا عدة ليال حتت اخلروب حتى جاءنا
البعض من قرية فراضية من أنســباء أهالي حطني. وفي فراضية بقينا حتى 30
أكتوبر/تشرين األول يوم ســقوط اجلليل. عمي ووالدي قاال إنه طاملا انسحب
جيش اإلنقاذ من مركزه في حديقة املندوب فإن اليهود قادمون ال محالة فخرجا
بعد املغرب لالستكشــاف ثم عادا بعد نصف ساعة وقررا الرحيل. وضعا فراشا
وحلفا على حمار وفرس لنا ومشــينا صاعدين جبــل اجلرمق العاصي دون أن
نعلــم أين الطريق وأحيانا كانت تســقط الفرس وهي محملــة بالفراش خالل
سيرها في الطريق الوعرة.
في الصباح وصلنا قرية عني األســد وهناك استأجر والدي بغلني مع دليلني
بخمس ليرات لتوصيلنا الى قرية رميش اللبنانية ألن عمتي كانت حامل بالشهر
التاسع ومعنا أطفال ونســاء وتعدادنا نحو عشرين نسمة. في الظهر استرحنا
لدى أصدقائنا من عائلة أبو حية في بلــدة بيت جن املعروفية حيث ربطتنا بها
وبعائالت درزية كثيــرة فيها صداقة من قبل النكبة بفضــل كوننا جيرانا ملقام
النبي شــعيب، بل كانت إحدى عائالت حطني )عائلــة القيم( حتمل مفتاح باب
املقــام. تناولنا الطعام في بيت أصدقائنا من عائلة أبو حية في بيت جن وطلبوا
منا البقاء لكننا واصلنا قبيل املساء املسير ومررنا من »وادي الذبان« على عتبة
حرفيش التي وجدنا أن اجليش اإلســرائيلي قد وصلها واحتلها وفي املســاء،
ووصلنا قرية رميش وبتنا على البيادر وكانت نصف فلســطني هناك، وأجنبت
عمتي زهرة رباح هناك »بال مي وال ضي« ولدا أســموه أحمد والحقا صار يدعى
حتى اليوم »رميش« على اسم املكان املولود فيه، وهو الجئ يقيم في اإلمارات.
درب اآلالم سيرا على األقدام
ويســتكمل أبو شوقي اســتعادة محطات درب اآلالم بالقول إنه في الصباح
وجدوا أن البير مغلق باحلجارة حتى جاء جيش اإلنقاذ يساعدهم في احلصول
على مياه الشرب، ثم واصلوا على البغال وســيرا على األقدام إلى بنت جبيل،
وما أن وصلوا ظهرا حتى استراحوا حتت أشجار الزيتون ورفض صاحب بيت
مجاور أن يسقيهم شربة ماء ويدعوهم للشرب من بركة تشرب منها احليوانات.
ويواصل استعادة تلك الرحلة الصادمة: »ما أن وصلنا حتى سمعنا البعض
يصرخ »يهود يهود« فهرب الكثيرون ومنهم أصحاب الدكاكني وسرعان ما تبني
أن املســلحني القادمني من جهة مارون الراس هم من جيــش اإلنقاذ. في اليوم
التالي وبعد مبيت ليلة وصلنا مخيم عني احللوة وبتنا ليلة، لكننا لم جند متسعا
لنا فيه فاجتهنا عند املســاء في القطار نحو مخيم النيرب في جوار حلب ومعنا
دار خالي وعمتــي وعائلتها وجدي وجدتي وعمي وعمــة أخرى عزباء، كافتنا
داخل عربة واحدة.
كنت أســمعهم يقولون إن تلك األضواء هي بيروت فقلت في ســري »سأبقى
يقظا كي أرى بيروت اجلميلة« لكن النعاس غلبني وفي الصباح وجدنا أنفســنا
على أعتاب طرابلس«.
في القطار إلى طرابلس
ملا وصل القطار الى طرابلس قالوا على مســامعه إن ســوريا أغلقت احلدود
ولم تعد تســتطيع اســتقبال الجئــن جدد، وكان قد ســبقهم خاله وأســرته
بســاعات، موضحا أنهم بقوا هناك أســبوعني داخل عربة القطار الضيقة لعدم
ّ وجود مكان يســكنونه فيما كانوا يرممون ثكنة من مخلفات اجليش الفرنسي
إلسكان الالجئني فيها ألن الطقس كان باردا وماطرا.
وعن ذلك يضيف مستعينا بذاكرته اخلضراء »كنا نتلقى خبزا وبطاطا ومترا
من وكالة الغوث يوميا. كان رئيس بلدية طرابلس عبد اجمليد كرامة يتكرم علينا
بالغداء واملاء كل يوم.
خالل أســبوعني عمل الرجل في ترميــم الثكنة التابعة للجيش الفرنســي
وعملت معهم في اليوم األخير وقبــض كل منا ليرتني لبنانيتني، وكان كل جنيه
فلســطيني بعشــر ليرات لبنانية. كنت مــع بقية األوالد خــال النهار نتجول
في املنطقة احمليطة بالقطار وكنا نذهب لنهر »قاديشــا أبــو علي« الذي مير من
طرابلس ويصب في البحر األبيض املتوسط.
كنا نلهو في النهر الذي مير من البيارات وصعدنا مرة اجلســر الذي مير منه
قطار حلب بيروت، وهو قطار قصير مكون من عربة واحدة لكنه ســريع )قطار
الشرق السريع( وفيما كنا نلهو مر القطار الســريع، فهرب إخوتي وأبناء عمي
بســرعة أما أنا فقد كنت في منتصف اجلســر ولم أمتكن من الهرب فتمددت في
ّ منتصف اجلســر على ألواح ومر القطار من فوقي وظن بقيــة األوالد أنني مت
لكنني نهضت مســرعا وحلقت به قبل إبالغ والدي مبا حصل. الحقا أقمنا داخل
الثكنة املذكورة لكنها كانت تدلف مياه املطــر من كل جانب فقررنا العودة لعني
احللوة على نفقتنا، وهناك وجدنا اخمليم مكتظا وال يتسع لنا«.
في بعلبك البرد يقطع املسمار
كمــا يوضح أبو شــوقي أنه وعائلته ذهبوا لكنيســة جديــدة خارج صيدا
في طور البنــاء مقصورة غير مبلطــة، فأقاموا فيها خالل شــهر كانون األول/
ديســمبر1948 فداهمهــم الــدرك اللبناني عدة مــرات، وكان الرجــال الكبار
يتخاصمون معهم بعدما كانوا يحاولــون إخراجهم كل يوم، وفي املرة األخيرة
طوق الدرك الكنيسة وأمامها باص لشركة العفيفي وشاحنة لشخص من حطني
وطلبوا منهم اخلروج، وغادرنا فعال في حافلة وشــاحنة نحو جهة غير معلومة
حتى وصلوا بيروت ثم زحلة مرورا بسهل البقاع، وعند غروب الشمس وصلوا
عمارة تدعى »القاووش« ثكنة فرنســية في بعلبك على شــكل غرفة طويلة من
مخلفات االستعمار الفرنســي وقاموا بتقســيمها باحلرامات لكل عائلة متران
مربعان«.
ويتابــع »تبني الحقا أن هناك »قاووشــا« آخــر في املنطقة. نحــن بتنا في
القاووش األســفل وفيه بقينا أربعة شــهور وكان فصل الشــتاء قارسا وسط
ازدحام شديد، تفصل بني العائلة والعائلة من الالجئني بطانية واحدة كحاجز.
كانت أحوال الطقس فــي بعلبك ثلجية وال تطاق وما زالت صورة مياه املزاريب
وهي متجمــدة كالعمود في ذاكرتي. في بعلبك كان مديــر القاووش في املنطقة
الفوقا حنا حداد من طرعان، وفيها مدرســة لألوالد، ومبســاعدته صرنا نتعلم
فيها وطيلة ثالثة شــهور كنا نسير يوميا من القاووش في املنطقة التحتا للفوقا
سيرا على األقدام ومرورا من أمام قلعة بعلبك التاريخية.
العودة لعني احللوة
»بعد نحو أربعة شهور كدنا خاللها منوت من البرد قرر أهلنا العودة الى عني
احللوة، كي نقترب من أقاربنا ومن فلســطني حيث كانت تصل األخبار منها عن
عملية تســجيل الهويات. لم جند مكانا في مخيم عني احللوة فأقمنا داخل خيمة
في مخيم املية مية قريبا من صيدا ومكثنا شهرين تقريبا«.
ويستعيد الشــيخ أبو شوقي الذي تشــتت عائلته في أصقاع الدنيا عودته
وأسرته الصغيرة إلى اجلليل«عدنا بذات الطريق لفلسطني في مايو/ أيار1949 ،
بتنا في رميش وانتظرنا إشــارة لنقطع احلدود من دليــل تقدمنا، وفعال بقينا
نســير ركضا حتى نبعة مياه في طرف وادي الذبــان مقابل حرفيش عند طلوع
الشــمس. وصلنا بيت جن حيث اســترحنا وتناولنا الغداء لدى أصدقائنا من
عائلة أبو حية، وبعد مســير واصل الليل بالنهار بلغنا قرية دير حنا عند املساء
ســيرا على األقدام، وكنت أحمل »ابريق مياه« جاء معنا من حطني للبنان ومنه
إلى عرابة البطــوف التي اخترنا االســتقرار فيها لقربها مــن حطني، وألن لنا
أنسباء من عائلة خطيب فيها. كانت أمي تسير طيلة درب اآلالم هذه وهي حتمل
شقيقي الرضيع أحمد الذي توفي بعدما عدنا للبالد بقليل نتيجة البرد واملرض،
وحاولت أن تســعفه بالذهاب لطبيب في ســخنني لكن دون جدوى. في عرابة
البطوف بدأنا دورة احلياة من الصفر«.
بطاقات الهوية للعائلة وطرد البقية
بعد بضعة شــهور في عرابة البطوف نادى الناطور الســكان باسم اخملتار
للتجمع في ســاحة املراح كي يأخذ عدد من الالجئني بطاقات هوية. كان أقارب
أنســباء محمود رباح أبو شــوقي قد ســجلوه وأفراد عائلته في قسائم سجل
األنفس اإلســرائيلي كأنهم مقيمون في عرابة البطــوف: »ذهب والدي وجدي
وعمي ودخل والدي توفيق حســن رباح إلى »الزاوية« بعدما نادوا عليه فوجد
أنه مسجل في سجل األنفس ورقمه 02136730 مثله مثل بقية أرقام هوية أهالي
عرابة – الســكان الذين حازوا على هوياتهم فــي أول االحتالل. عندما دخلت
والدتي وضحة ســليم شــعبان تبني أنه ال قسيمة لها واســمها غير مسجل وال
يوجد لها رقم بعكس والدي وفكر املوظف وهو عربي من قرية الرينة رمبا اسمه
ســعيد الزامل ومعه موظفة يهودية تدعى طوفي، ويبدو أن ساعة رحمانية قد
أتتهما فقررا منحهــا بطاقة هوية رقمها03519462 وأنــا ينتهي رقم بطاقتي 64
وهكذا إخوتي : جهاد)65 )حمدة)66 )محمد )67 )وأحمد)68 )واألخير ســمي
على اسم شــقيقنا أحمد الذي مات رضيعا متأثرا مبرض بسبب الترحال، حيث
كانت والدتي قد حملته في حضنها طيلة املســير مــن بعلبك إلى عني احللوة ثم
إلى عرابة البطوف. مت تســجيل األوالد فيها وهكذا بقينــا في عرابة البطوف،
ّ لكن أقارب لنا لم يجدوا لهم أســماء مسجلة في سجل القسائم اإلسرائيلي. لكن
جدي حســن مرعي رباح وجدتي لبيبة رباح وعمي أحمــد رباح وعمتي زهرة
رباح وزوجها إبراهيم صالــح رباح وأوالدهما فقد طردوا إلى جنني رغم كونهم
مسجلني في ســجل األنفس، وذلك لعدم تسجيل نســائهم في السجل، وعندما
رجعوا عن طريق األردن وســوريا ولبنان طردوا ثانية، وفي املرة الثالثة أيضا
طردوا للبنان وصاروا هناك الجئني حتى اليوم«.
وردا على سؤال يستعيد أبو شــوقي مالمح احلياة في حطني، ويبدأ بوفرة
مياهها باإلشــارة لنبع »العيون« أغزر عيون حطني املوجودة في محاذاة مقام
النبي شــعيب، موضحا أن املياه كانت تنبع من ســفح اجلبــل وبجوارها بئر
مبنية من اإلسمنت كنا نســتحم فيه، وهي تصب في جرن حجري يسمى »ران«
وجتري نحو البلدة صيفا وشتاء، وكانت نساء حطني يقصدنها لصفاء مياهها
ونظافتها، ومن خلــف هذا النبع منطقة املنطار وللشــمال منه منطقة الصفاح،
وهي مناطق جبلية مزروعة بكروم الزيتون في قمتها قرنا حطني.
كما يوضــح أن مياه نبــع العيون« كانت تصــل مزارع البلدة وبســاتينها
ومزروعاتها الشــتوية والصيفية حيث كانوا يزرعــون خضراوات كالبندورة
واخليــار وامللوخية والفجل واخلــس والبصل وامللفوف والزهراء والكوســا
والقرع والسبانخ وغيرها، عالوة على كروم املشمش والتفاح والعناب والعنب
واللوز والتوت والتــن والرمان واجلوز واللوز، وهذه كلها تســد احتياجات
البلدة وتصدير ما تبقى لـ األسواق في طبرية.
القسطل
النبعة الثانية تلك التي متر من اجلامع التاريخي وســميت بـ »القسطل« ألن
مياهها متر مبواســير فخارية تدعى قســاطل، وكانت املياه تستخدم للوضوء
واالغتســال، منبها أيضــا لوجود نبعة أخــرى في وادي الليمــون تدعى عني
الصرار وكانت تسقي كرومه وتصب مياهها في بحيرة طبرية، وأبرز أشجارها
احلمضيات.
وحســب شــهادة أبو شــوقي كانت مياه الينابيع ملك لألهالــي ودوابهم
ومزارعهم وتوزع على أصحاب األرض حسب كم فدان ميلك.
ّ وميضي فــي شــهادته »كانت حطني قــد حتســنت أحوالهــا االقتصادية
ّ -االجتماعية بفضل وفرة ينابيعها وخصوبــة تربتها وبعض العائالت علمت
أبنائها بفضل ذلك. كانت هناك سيدة خرساء تدعى فاطمة عزام تزوج ابنها بعد
وفاة زوجته فتولت هي تعليم حفيدها جاد في الكلية العربية في القدس، وحاز
على شــهادة املاتريك، وفي لبنان بعد »الهجيج« عمل في شركة البترول أرامكو
وساهم في حتسني أحوال عائلته«.
ويتابع منفعال في مديح تلك الســيدة املناضلة« كانت جدته تزرع مزروعات
كثيرة كالنعناع والبقدونس واخلس وتذهب لطبرية وتبيعها في السوق وتنفق
على حفيدها. وهناك أيضا بير »مزقة« شــمال البلــدة ومياهه الباطنية غزيرة
جدا«.
حسبة اخلضار
كانت طبرية بالنســبة حلطــن هي األخت الكبــرى تبيع فيهــا منتوجاتنا
وتشتري ما حتتاجه منها، »كنت طفال أرافق والدي وعمي وهما يوردان حمولة
اخلضراوات والفواكه للحســبة. داخل احلســبة كان الدالل أبو عرب هو الذي
يشــتري حموالت اخلضراوات والثمــار من الفالحني ويتولــى بيعها للزبائن
خاصــة اليهود، وكنا نبيع باألســاس التفاح واملشــمش وغيرنا بــاع فيها كل
أنواع اخلضراوات، مبعنى أن الدالل كان وســيطا بني البائعني وبني من يشتري
ّ رق
باملفرق«. يستذكر أبو شوقي ويكمل »كانت هناك حسبة أخرى للبضاعة باملف
حيث توجد دكاكني األســماك اليوم، واعتاد األهالــي على بيع البيض واللنب أو
ّ رق. أذكر أننا كنا نودع الدواب في واحد من خانني في طبرية ريثما
الدجاج باملف
ننهي أشغالنا ثم ندفع الدخولية ونعود«.
شجرة الزنزخلت
منبها أن أهالي حطني اعتادوا حتميل هذه الفواكه واخلضراوات على البغال
واحلمير واخليل وتوريدها لطبرية، وكانت تودع الفواكه داخل أحمال خشبية
ّ في أسفلها وفي أعالها أوراق شــجرة زنزخلت كي ال تقربها احلشرات فهي مرة
جدا وكي تبقى الفواكه واخلضراوات نضرة وطرية وسليمة«.
وتابع »باملناسبة كانت تستخدم أشجار الزنزخلت في بناء البيوت املصممة
على طراز العقد، فأعوادها مســتقيمة وتســتخدم كجسور وقواطع، وهي قوية
ّ ألنها مرة الســوس ال ينخرهــا وكانت تزرع بــن البيوت لطرد احلشــرات«.
ويضيف »كان أهالي حطني يتداون في املستشــفى االسكوتلندي ومديره أملاني
يدعــى لورنس، بل كانت منطقة الليدو على ضفــاف البحيرة تتبع لألملان، لكن
نساء حطني كن يلدن في البيوت«.
ويســتذكر أنه قريبا من احلسبة كان يقوم بنك األمة ومديره صدقي الطبري
الــذي فتح حلماية األراضي من البيع لليهود بعد موجة بيع في الثالثينيات وقد
حاز والده على قــرض منه واقتنى قطعة أرض في حطني عــام 1942 من عائلة
أصلها من كفــر عنان، وكذلك عمه وجده اقتنيا قطعتــن إضافيتني وهي عادت
لقريتها واشترت أراضي هناك.
وردا على ســؤال حول تتمة مالمح احلياة االجتماعية يواصل أبو شــوقي
احلديث بذاكرة قوية وكأنه يغرف من بحيرة طبرية: »كان حداؤون شــعبيون
يحيون ســهرات األعراس خاصة أبو ســعيد احلطيني، وكان يفتتح الســهرة
بالقول: »أنا احلدا احلطيني أعور من عيني اليميني« والحقا شــاركه شــقيقه
ّ محمد أبو شــكيب. وكان أهالي حطني يزفون العريــس في »مرودحة« إلى مقام
النبي شعيب ويستظلون حتت أفياء أشجار زيتون. وهناك تتم الدبكة الشعبية
ومنها ينزلون للقرية في صف سحجة، أما العروس فكانت تذهب لبيت عريسها
عند املساء، موضحا أن أبو شكيب استشــهد في معركة مع اليهود قبيل سقوط
جارة حطني القرية الكبرى لوبية، وذلك عندما جاءت مجموعة من يهود طبرية
والشجرة نحو لوبية وفي الطريق جرح اخملتار عمه أحمد قاسم رباح واستشهد
أبو شكيب.
ّ ويتابع »والد احلدائني أبو الســعيد وأبو شــكيب ولدا ألب من صفد األصل
تزوج من ســيدة يهودية تدعــى بديعة، وقــد بقيت في حطني بعد ســقوطها
وكانت قد أســلمت وتصلي وترتدي غطاء على رأسها. كان بعض أهالي حطني
ممن اســتقروا في قرية كفرعنان يعودون خلسة لبيوتهم للحصول على بعض
احلاجيات وقد بقي في القرية بعض املســنني وبديعة التي كانت تعطي إشارة
للمتســللني بإضاءة مصباح في بيتها لتبلغهم بأن البلدة خالية من اليهود، لكن
هؤالء اكتشفوا أمرها وطردوها هي األخرى«.
قصة الشيخ محمود شعبان
ونوه أن الشــيخ محمد أحمد نعيم الزيتاوي ووالده إمام املسجد التاريخي،
وهما من بلدة زيتا قضاء نابلس التي كانت تصدر مشــايخ للقرى الفلسطينية
ّ وعاشــا مع أهالي حطني وورث اإلمامة فيها من والده، وهو شيخ الكتاب حيث
تعلم العربية واحلساب عنده قبل االلتحاق باملدرسة االبتدائية.
ويستذكر أبو شوقي قصة مشــحونة يرويها بشغف لعبرتها اجلميلة فيقول
إن »الشيخ الراحل محمود شعبان من حطني سافر في أربعينيات القرن املاضي
إلى القاهرة ومكــث فيها ثماني ســنوات وعاد منها بعد إجازتــه في األزهر«.
ويضيف«أصل احلكاية أن شقيقه تشاجر مع شــخص من بلدته وتورط بقتله
وأنكر تهمــة القتل، مدعيا أنه كان فــي البيت وقت وقــوع اجلرمية وقد طلبت
العائلة من شــقيقه محمود أن يشهد على ذلك شهادة زور فرفض، وفي الصباح
الباكر غادر حطني إلى مصر وفيها وصل األزهر. وبعد ســنوات عاد لفلســطني
وحينمــا وصل حطني احتفل األقرباء واألصدقاء بــه ورغبوا بتعيينه إماما في
مسجد البلدة بدال من الشيخ الزيتاوي، لكن الشيخ شعبان بكرم أخالقه رفض،
وقال معلال رفضه هل يعقل أن أعود من األزهر مســتغال علمي ألقطع أرزاق شيخ
زميل لي؟ وما لبث أن عني إماما ملسجد طرعان، فانتقل إليها واستقر فيها وتزوج
ّ وكون أسرة«.
ويوضح أبو شــوقي أنه حينما وقعت النكبة في1948 مت تهجير الشــيخني
من زيتا مع بقية أهالي حطني إلى لبنان، فيما بقي الشــيخ شــعبان وأسرته في
طرعان وفيها باتت ذريته شجرة خضراء له فيها اليوم عشرات األحفاد، مؤكدا
أنها تبدو قصة بســيطة لكنها تنطوي على عبرة كبيرة. وبقيت ســيرة الشيخ
محمود طيبة كاملســك مثلما بقيت صورته في الذاكرة وهــو يلعب »املنقلة« مع
صديقه اخلــوري األب الراحل كامل خوري في طرعــان، وهي مثبتة في بيوت
كثيرة حتى اليوم الحتضانها رسالة وحدوية لطيفة.
ويستذكر املؤرخ وليد اخلالدي )كي ال ننسى( أن حطني تهجرت يوم سقطت
الناصــرة وجارتها لوبية في يوليو/ متوز 48 ونزح أهلها ملنطقة وادي ســامة
وجنا بعض احملظوظني من جحيــم التهجير واللجوء وبقــوا في عرابة، ودير
حنا، وكفركنا وشفا عمرو وعيلبون وغيرها.
■ على قبعتك مكتوب »راجعني على حطني« هل هي رسالة؟
□ »طبعا األمل كبير بالعودة ولن يخيب أملنا بهذا األمل، وإن لم نعد سيعود
أبناؤنا أو أحفادنا بإذن الله«.
الشيخ محمود رباح أبو شوقي، املولود في حطني عام 1936 ،وخالل 36 عاما
في ســلك التعليم لم يتغيب ســوى 36 يوما خالل كل مدة تعليمه، يستعيد ذلك
على مسامع أتراب له ممن يشهدون له أخالقه وصدقه